فصل: فصل: (إِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.فصل: (إِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ):

(وَإِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَنْفُذُ، لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصِبَاهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ، وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْوَلِيُّ التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكَ حَجْرَهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا لِلْمُنَافَاةِ وَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ بِالْوَلِيِّ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى تَنْفِيذِهِ مِنْهُ.
أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَيَتَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ فَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا.
وَلَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ عَلَى مَا عُرِفَ تَقْرِيرُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ الْهِدَايَةِ لَا لِذَاتِهِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ نَظَرًا إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ، وَاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، لِأَنَّهُ ضَارٌّ مَحْضٌ فَلَمْ يُؤَهَّلْ لَهُ، وَالنَّافِعُ الْمَحْضُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يُؤَهَّلُ لَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَيُجْعَلُ أَهْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَا قَبْلَهُ لَكِنْ قَبْلَ الْإِذْنِ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ نَظَرًا وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ، وَذِكْرُ الْوَلِيِّ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ الْأَبَ وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْوَصِيَّ وَالْقَاضِيَ وَالْوَالِيَ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ تَقْلِيدُ الْقُضَاةِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْقِلَ كَوْنَ الْبَيْعِ سَالِبًا لِلْمِلْكِ جَالِبًا لِلرِّبْحِ وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ وَالْمَأْذُونُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا، فَلَا يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، وَيَصِيرُ مَأْذُونًا بِالسُّكُوتِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَذَا بِمَوْرُوثِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَلَا كِتَابَتَهُ كَمَا فِي الْعَبْدِ، وَالْمَعْتُوهُ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ يَصِيرُ مَأْذُونًا بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الْغَصْبِ:

الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ، بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ، حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ، لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا إثْمَ، لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ فَكَانَ أَدْفَعَ لِلضَّرَرِ.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ) وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ) لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ اُلْتُحِقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ وَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّقْلَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، وَلِهَذَا لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ جِنْسُهُ، لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ، لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ كَمَا وُجِدَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
قَالَ: (وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ) مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ مُرَاعَاةُ الْحَقِّ فِي الْجِنْسِ، فَيُرَاعَى فِي الْمَالِيَّةِ وَحْدَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ، حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ.
الشرح:
كِتَاب الْغَصْب:
قَالَ: (وَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ) مَعْنَاهُ مَا دَامَ قَائِمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَلَى الْيَد مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ»، وَلِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَيَجِبُ إعَادَتُهَا بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ عَلَى مَا قَالُوا، وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلَفًا، لِأَنَّهُ قَاصِرٌ، إذْ الْكَمَالُ فِي رَدِّ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، وَقِيلَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ الْقِيمَةُ، وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
قَالَ: (وَالْوَاجِبُ الرَّدُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَصَبَهُ) لِتَفَاوُتِ الْقِيَمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ (فَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهَا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَظْهَرَهَا ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا)، لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْهَلَاكُ بِعَارِضٍ، فَهُوَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَمَا إذَا ادَّعَى الْإِفْلَاسَ وَعَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ، فَيُحْبَسُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ مَا يَدَّعِيهِ، فَإِذَا عُلِمَ الْهَلَاكُ سَقَطَ عَنْهُ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ، ثُمَّ نَسِيَ الْحَسَنُ، فَقَالَ: هُوَ أَمِينُك لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْبُيُوع، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْعَارِيَّةِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ قِصَّةُ الْحَسَنِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ فَقَالَ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُوَ عَلَى شَرْطِ التِّرْمِذِيِّ. انْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُثْبِتُ سَمَاعَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ. انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَالَ فِيهِ: حَتَّى تُؤَدِّيَهُ بِالْهَاءِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَهُوَ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ مُوجِبٌ لِرَدِّ الْعَيْنِ مَا كَانَتْ قَائِمَةً، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ، فِي كَلَامِهِ عَلَى أَحَادِيثِ الشِّهَابِ: إسْنَادُهُ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجَاهُ فِي الصَّحِيحِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ إلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَخِيهِ، لَاعِبًا، وَلَا جَادًّا، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ السَّائِبِ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
فَحَدِيثُ يَزِيدَ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي بَابِ الْمِزَاحِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي أَوَّلِ الْفِتَنِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ يَزِيدَ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ جَادًّا، وَلَا لَاعِبًا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ، فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لَهُ صُحْبَةٌ، سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَامٌ، وَقُبِضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسَّائِبُ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَأَبُوهُ يَزِيدُ بْنُ السَّائِبِ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَسَمَّى ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْفَضَائِلِ، وَسَكَتَ عَنْهُ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَابْنُهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْهُ، ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: «حَجَّ أَبِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: وَفِيهَا مَاتَ، وَهِيَ سَنَةُ إحْدَى وَتِسْعِينَ»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ)، لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ (وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضْمَنُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَتَحَقَّقُ الْوَصْفَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ وَجُحُودِ الْوَدِيعَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ، لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ، فَصَارَ كَمَا إذَا بَعُدَ الْمَالِكُ عَنْ الْمَوَاشِي، وَفِي الْمَنْقُولِ النَّقْلُ فِعْلٌ فِيهِ وَهُوَ الْغَصْبُ وَمَسْأَلَةُ الْجُحُودِ مَمْنُوعَةٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالضَّمَانُ هُنَاكَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ وَبِالْجُحُودِ تَارِكٌ لِذَلِكَ.
قَالَ: (وَمَا نَقَصَهُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ أَوْ سُكْنَاهُ ضَمِنَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)، لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ، كَمَا إذَا نَقَلَ تُرَابَهُ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْعَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيمَا قَالَهُ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ بِسُكْنَاهُ وَعَمَلِهِ، فَلَوْ غَصَبَ دَارًا وَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ غَصْبَ الْبَائِعِ وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْغَصْبِ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ: (وَإِنْ انْتَقَصَ بِالزِّرَاعَةِ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ)، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْبَعْضَ، فَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ) وَسَنَذْكُرُ الْوَجْهَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
قَالَ: (وَإِذَا هَلَكَ النَّقْلُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ضَمِنَهُ) وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَاذَا هَلَكَ الْغَصْبُ وَالْمَنْقُولُ هُوَ الْمُرَادُ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْغَصْبَ فِيمَا يُنْقَلُ، وَهَذَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ، إذْ هُوَ السَّبَبُ وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهِ يَجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ أَوْ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ السَّبَبُ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ.
(وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ)، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ، بِخِلَافِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ، إذَا رَدَّ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ الرَّغَبَاتِ دُونَ فَوْتِ الْجُزْءِ وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ، أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ.
أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا.
قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا آجَرَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُسْتَعَارَ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ، أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ، لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ عِنْدَنَا، وَلَهُمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَمَا هَذَا حَالُهُ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ، إذْ الْفَرْعُ يَحْصُلُ عَلَى وَصْفِ الْأَصْلِ وَالْمِلْكُ الْمُسْتَنِدُ نَاقِصٌ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْخَبَثُ.
(فَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى ضَمِنَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الضَّمَانِ)، لِأَنَّ الْخَبَثَ لِأَجْلِ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ، فَيَزُولُ الْخَبَثُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَغَرِمَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْخَبَثَ مَا كَانَ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ، فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ وَهَذَا عِنْدَهُمَا) وَأَصْلُهُ: أَنَّ الْغَاصِبَ أَوْ الْمُودَعَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ، وَجَوَابُهُمَا فِي الْوَدِيعَةِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَى مَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ، لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ، أَمَّا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ كَالثَّمِينِ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا الثَّمَنَ.
أَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا أَوْ أَطْلَقَ إطْلَاقًا وَنَقَدَ مِنْهَا يَطِيبُ لَهُ، وَهَكَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا كَانَتْ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ لِيَتَحَقَّقَ الْخَبَثُ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَا يَطِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ وَكَذَا بَعْدَ الضَّمَانِ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةِ.
قَالَ: (وَإِنْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ) وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فصلٌ: فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ:

قَالَ: (وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ، حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعَظُمَ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا، أَوْ صُفْرًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً) وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنْهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُضَمِّنُهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ.
كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةِ الْغَيْرِ فَطُحِنَتْ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ، لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَصَارَ كَمَا إذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ أَصْلًا، وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا، وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً، فَصَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ، وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَحَقُّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا يَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إحْدَاثُ الصَّنْعَةِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ، لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْمَلُ الْفُصُولَ الْمَذْكُورَةَ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَاحْفَظْهُ.
وَقَوْلُهُ:
وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجْهُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهَا «أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» أَفَادَ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَحُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فَتْحَ بَابِ الْغَصْبِ، فَيَحْرُمُ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ، وَنَفَاذُ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ مَعَ الْحُرْمَةِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ، وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ لَهُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي، وَكَذَا إذَا أَبْرَأَهُ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِهِ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمَّنَهُ الْحَاكِمُ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ فِيهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي الْحِنْطَةِ يَزْرَعُهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَاءِ صَاحِبِهَا: أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى.
فَحَدِيثُ الرَّجُلِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ أَنْبَأَ عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ: أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ، فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا، فَأَرْسَلَتْ الْمَرْأَةُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَرْسَلْتُ إلَى الْبَقِيعِ لِيُشْتَرَى لِي شَاةٌ، فَلَمْ أَجِدْ، فَأَرْسَلْت إلَى جَارٍ لِي قَدْ اشْتَرَى شَاةً أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيَّ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَطْعِمِيهِ الْأَسَارَى»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ، فَذَكَرَهُ، وَهَذَا سَنَدُ الصَّحِيحِ، إلَّا أَنَّ كُلَيْبَ بْنَ شِهَابٍ، وَالِدَ عَاصِمٍ لَمْ يُخَرِّجَا لَهُ فِي الصَّحِيحِ، وَخَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْئِهِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَقَالَ فِيهِ ابْنُ سَعْدٍ: ثِقَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَلَا يَضُرُّهُ قَوْلُ أَبِي دَاوُد عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ بِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّحْمُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ الْأَوَّلِ، لَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعَمَ لِلْأَسَارَى، وَلَكِنْ لَمَّا رَآهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ، وَصَارَ مَضْمُونًا عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ، أَمَرَ بِإِطْعَامِهِ لِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ شَيْئًا فَصَارَ لَهُ مِنْ وَجْهِ غَصْبٍ، فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَلَا يَأْكُلَهُ، وَكَذَلِكَ رِبْحُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي الضَّحَايَا عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ الرَّبِيعِ ثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ بِهِ، وَحُمَيْدَ بْنُ الرَّبِيعِ هُوَ الْخَزَّازُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَزَايٍ مُكَرَّرَةٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: كَذَّابٌ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ فَقَالَ: وَثَّقَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَقَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْت قَوْلَك فِي الرَّجُلِ يَعْمَلُ فِي مَالِ الرَّجُلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ: إنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ؟ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ هَذَا، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطَّائِيُّ ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي دَارِهِمْ، فَذَبَحُوا لَهُ شَاةً، فَصَنَعُوا لَهُ مِنْهَا طَعَامًا، فَأَخَذَ مِنْ اللَّحْمِ شَيْئًا لِيَأْكُلَهُ، فَمَضَغَهُ سَاعَةً لَا يَسِيغُهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا اللَّحْمِ؟ قَالَ: شَاةٌ لِفُلَانٍ ذَبَحْنَاهَا، حَتَّى يَجِيءَ نُرْضِهِ مِنْ ثَمَنِهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» انْتَهَى.
ورَوَاهُ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطَّائِيُّ ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ بِهِ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَمْلِكُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ إذَا غَيَّرَهَا تَغَيُّرًا يُخْرِجُهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّ مِلْكَ صَاحِبِهَا زَالَ عَنْهَا بِذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ يَأْمُرُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ»، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي الْبُيُوعِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَارِثَةَ الضُّمَيْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ، قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فَسَمِعْته يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ، فَقُلْت لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ غَنَمَ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَأَخَذْتُ مِنْهَا شَاةً، فَاجْتَزَرْتُهَا، أَعَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟، قَالَ: إنْ لَقِيتهَا تَحْمِلُ شَفْرَةً وَأَزْنَادًا، فَلَا تَمَسَّهَا»، انْتَهَى.
وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَأُخْرِجَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ بِإِسْنَادَيْنِ: فِي الْأَوَّلِ مَجَاهِيلُ، وَفِي الثَّانِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَقَالَا يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا)، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمَضْرُوبُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَلَهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ، وَمَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا، وَأَنَّهُ بَاقٍ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ وَصَلَاحِيَتِهِ لِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَكَذَا الصَّنْعَةُ فِيهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا.
قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا، وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ، وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ، فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالَيْ السَّاجَةِ، أَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ: (وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا وَكَذَا الْجَزُورُ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا) هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَبَقَاءِ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ حَيْثُ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ.
قَالَ: (وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ)، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ.
قَالَ: (وَإِنْ خَرَقَ خَرْقًا كَبِيرًا يُبْطِلُ عَامَّةَ مَنَافِعِهِ، فَلِمَالِكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ)، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ أَحْرَقَهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَاهُ: يَتْرُكُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ، ثُمَّ إشَارَةُ الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا وَالْفَائِتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ.
قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى قِيلَ لَهُ: اقْلَعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَيُؤْمَرُ الشَّاغِلُ بِتَفْرِيغِهَا كَمَا إذَا شَغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَقِيمَةَ الْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونَانِ لَهُ)، لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَقَوْلُهُ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا، مَعْنَاهُ: قِيمَةُ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ إذْ لَا قَرَارَ لَهُ فِيهِ، فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ بِدُونِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَتُقَوَّمُ وَبِهَا شَجَرٌ أَوْ بِنَاءٌ، لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.
الشرح:
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ.
فَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْخَرَاج، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَالنَّسَائِيُّ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ ثَنَا أَيُّوبُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً، فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا، انْتَهَى.
قُلْتُ: مِنْهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّقَصِّي: أَرْسَلَهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى.
وقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ هِشَامٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَغْرِسَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقَّهَا بِذَلِكَ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ كُلُّ مَا أُخِذَ، وَاحْتُفِرَ، وَغُرِسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامٍ، فَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَابَعَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَقَالَ: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا. انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّجُلِ: فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَقَدْ خَبَّرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ، غَرَسَ أَحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلًا، وَالْأَرْضُ لِلْآخَرِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ، قَالَ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَأَى النَّخْلَ تُقْلَعُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا زَمْعَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مِنْ مَوَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» انْتَهَى.
وَمِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ، وَالْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ عَنْ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا يُوسُفُ الْقَاضِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: إنَّهُ «مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: فَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَقُّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، انْتَهَى.
وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِكَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَضَعَّفَاهُ عَنْ النَّسَائِيّ، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ تَضْعِيفًا شَدِيدًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَهُ نَفَقَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ»، فَقَضَى عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِنَفَقَةِ الزَّارِعِ، وَجَعَلَ الزَّرْعَ لِرَبِّ الْأَرْضِ، قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالنَّخْلِ أَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ سَنَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ رَجَعَتْ الْأَرْضُ إلَى رَبِّهَا، وَصَارَ لِلْآخَرِ نَفَقَتُهُ، فَصَارَ هَذَا أَرْشَدَ مِنْ قَلْعِ الزَّرْعِ بَقْلًا، وَلَيْسَ النَّخْلُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُؤَبَّدٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَا وَقْتَ يُنْتَظَرُ لِقَلْعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِتَأْخِيرِ نَزْعِهَا وَجْهٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الثَّوْبِ: لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الصَّبْغِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاجَةِ بَنَى فِيهَا، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ السَّمْنِ فِي السَّوِيقِ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ.
وَلَنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْخِيرَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ السَّاجَةِ بَنَى فِيهَا، لِأَنَّ النَّقْضَ لَهُ بَعْدَ النَّقْضِ، أَمَّا الصَّبْغُ فَيَتَلَاشَى، وَبِخِلَافِ مَا إذَا انْصَبَغَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ، لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ لِيَضْمَنَ الثَّوْبَ فَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَصْلِ الصَّبْغَ.
قَالَ أَبُو عِصْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَهُ وَيَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ الصَّبْغَ بِالْقِيمَةِ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ تَعَيَّنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ، وَيَتَأَتَّى هَذَا فِيمَا إذَا انْصَبَغَ الثَّوْبُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا الْوَجْهُ فِي السَّوِيقِ، غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ.
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ، لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَالصُّفْرَةُ كَالْحُمْرَةِ، وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَهُوَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ: وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَقِيلَ إنْ كَانَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ السَّوَادُ فَهُوَ نُقْصَانٌ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يَزِيدُ فِيهِ السَّوَادُ، فَهُوَ كَالْحُمْرَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا تُنْقِصُهُ الْحُمُرَةُ، بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَرَاجَعَتْ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى ثَوْبٍ تَزِيدُ فِيهِ الْحُمُرَةُ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ إحْدَى الْخَمْسَتَيْنِ جُبِرَتْ بِالصَّبْغِ.